الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
بني ثابت
أهل الجبل المطل علي قسطنطينة من بقايا كتامة ومن بطون كتامة وقبائلهم أهل الجبل المطل على القل ما بينه وبين قسطنطينة المعروف برئاسة أولاد ثابت بن حسن بن أبي بكر من بني تليلان. ويقال إن أبا بكر هذا الجد هو الذي فرض المغرم على أهل هذا الجبل لأيام الموحدين ولم يكن قبل ذلك عليه مغرم - فلما انقرض ملك صنهاجة وغلب الموحدون على إفريقية وفد أبو بكر هذا على الخليفة بمراكش ونجع بالطاعة والانقياد وتقرب إليه بفرض المغرم على قبيلة بالجبل وكان لثابت هذا من الولد علي وحسن وسلطان وإبراهيم كلهم رأسوا بالجبل. وأما حسن منهم فحجب السلطان أبا يحيى لأول دولته وفي عنيته. ولابن عمر لدولة طرابلس أعوام إحدى عشر وسبعمائة كما نذكره. فلما تملك السلطان بجاية وقتل ابن خلوف ورجع ابن عمر من تونس إلى حجابته وجد حسن بن ثابت معسكراً بفرجيوة لانقضاء مغارم الوطن فبعث إليه من قتله. وكان آخرهم رئاسة بالجبل علي أدرك دولة بني مرين بإفريقية. وولي بعده ابن عبد الرحمن. ووفد على السلطان أبي عنان بفاس. ولما استجد مولانا السلطان أبو العباس دولته بإفريقية استولى عليهم ومحا أثر مشيختهم ورئاستهم وصيرهم من عداد جنده وحاشيته. واستعمل في الجبل عماله وهو جبل مطاوع وجبايته مؤداة لصولته وجواره للعسكر بقسطنطينة. ومن بقايا كتامة أيضاً قبائل أخرى بناحية تدلس في هضابه مكتنفة بها وهم في عداد القبائل الغارمة. وبالمغرب الأقصى منهم قبيلة من بني يستيتن بجبل قبلة جبل يزناسن وقبيلة أخرى بناحية الهبط مجاورون لقصر ابن عبد الكريم وقبائل أخرى بناحية مراكش نزلوا مع صنهاجة هنالك. ونسب كتامة لهذا العهد بين القبائل المثل السائر في الدولة لما نكرتهم الدول من بعدهم أربعمائة سنة بانتحالهم الرافضة ومذاهبها الكفرية حتى صار كثير من أهل نسبهم يفرون منه وينتسبون فيمن سواهم من القبائل فراراً من هجنته والعزة لله وحده. هذا البطن من أكبر بطون البربر ومواطنهم كما تراه محتفة ببجاية إلى تدلس في جبال شاهقة وأوعار متسنمة ولهم بطون وشعوب كثيرة ومواطنهم متصلة بمواطن كتامة وهؤلاء وأكثر الناس جاهلون بنسبهم. وعامة نسابة البربر على أنهم من بني سمكان بن يحيى بن ضريس وأنهم إخوة زواغة. والمحققون من النسابة مثل ابن حزم وأنظاره إنما يعدونهم في بطون كتامة وهو الأصوب. والمواطن أوضح دليل عليه. وإلا فأين مواطن زواغة وهي طرابلس. وبالمغرب الأقصى من موطن كتامة. وإنما حمل على الغلط في نسبهم إلى كتامة تصحيف اسم زوازة بالزاي بعد الواو وهم إخوة زواغة بلا شك فصحف هذا القارىء الزاي بالواو فعد زواوة إخوان زواغة. ثم استمر التصحيف وجمعا في نسب سمكان والله أعلم وقد مر ذكرهم هنالك مع ذكر زواغة وتعديد بطونهم. صنهاجة الخبر عن صنهاجة من بطون البرانس وما كان لهم من الظهور والدول في بلاد المغرب والأندلس هذا القبيل من أوفر قبائل البربر وهو أكثر أهل الغرب لهذا العهد وما قبله لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط حتى لقد زعم كثير من الناس أنهم الثلث من أمم البربر. وكان لهم في الردة ذكر وفي الخروج على الأمراء بإفريقية شأن تقدم منه في صدر ذكر البرابر ونذكر منه هنا ما تيسر. وأما ذكر نسبهم فإنهم من ولد صنهاج وهو صناك بالصاد المشمة بالزاي والكاف القريبة من الجيم. إلا أن العرب عربته وزادت فيه الهاء بين النون والألف فصار صنهاج. وهو عند نسابة البربر من بطون البرانس من ولد برنس بن بر وذكر ابن الكلبي والطبري أنهم وكتامة جميعاً من حمير كما تقدم في كتامة وفيما نقل الطبري في تاريخه أنه صنهاج بن يصوكان بن ميسور بن الفند بن أفريقش بن قيس. وبعض النسابة يزعم أنه صنهاج بن المثنى بن المنصور بن المصباح بن يحصب بن مالك بن عامر بن حمير الأصغر من سبأ كذا نقل ابن النحوي من مؤرخي دولتهم وجعله ليحصب. وقد مر ذكره في أنساب حمير وليس كما ذكر والله أعلم. وأما المحققون من نسابة البربر فيقولون هو صنهاج بن عاميل بن زعزاع بن كيمتا بن سدر بن مولان بن يصلين بن يبرين بن مكسيلة بن دهيوس بن حلحال بن شرو بن مصرايم بن حام. ويزعمون أن جزول واللمط وهكسور إخوة صنهاج وأن أمهم الأربعة تصكي وبها يعرفون. وهي بنت زحيك بن مادغس ويقال لها العرجاء. فهذه القبائل الأربعة من القبائل إخوة لأم والله أعلم. وأما بطون صنهاجة فكثيرة فمنهم بلكانة وأنجفة وشرطة ولمتونة ومسوفة وكدالة ومندلة وبنو وارث وبنو يتيسن. ومن بطون أنجفة بنو مزوارت وبنو سليب وفشتالة وملوانة. هكذا يكاد نقل بعض نسابة البربر في كتبهم وذكر آخرون من مؤرخي البربرأن بطونهم تنتهي إلى سبعين بطنا. وذكر ابن الكلبي والطبري أن بلادهم بالصحراء مسيرة ستة أشهر. وكان أعظم قبائل صنهاجة تلكانة وفيهم كان الملك الأول. وكانت مواطنهم ما بين المغرب الأوسط وإفريقية وهم أهل مدر. ومواطن مسوفة ولمتونة وكدالة وشرطة بالصحراء وهم أهل وبر. وأما أنجفة فبطونهم مفترقة وهم أكثر بطون صنهاجة. ولصنهاجة ولاية لعلي بن أبي طالب كما أن لمغراوة ولاية لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما إلا أنا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها. وكان من مشاهيرهم في الدولة الإسلامية ثابت بن وزريون ثار بإفريقية أيام السفاح عند انقراض الأموية: وعبد الله بن سكرديرلك وعباد صادق من قواد حماد بلكين وسليمان بن بطعتان بن عليان أيام باديس بن بلكين. وبنو جدون وزاريني حماد وهو حمدون بن سليمان بن محمد بن علي بن عليم. منهم ميمون بن جميل ابن أخت طارق مولى عثمان بن عفان صاحب فتح الأندلس في آخرين يطول ذكرهم. وكان الملك في صنهاجة في طبقتين: الطبقة الأولى تلكاتة ملوك إفريقية والأندلس والثانية مسوفة ولمتونة من الملثمين ملوك المغرب المسمون بالمرابطين ويأتي الطبقة الأولى من صنهاجة وما كان لهم من الملك كان أهل هذه الطبقة بنو ملكان بن كرت وكانت مواطنهم بالمسيلة إلى حمرة إلى الجزائر ولمدية ومليناتة من مواطن بني يزيد وحصين والعطاف من زغبة ومواطن الثعالبة لهذا العهد. وكان معهم بطون كثيرة من صنهاجة أعقابهم هنالك من متنان وأنوغة وبنو عثمان وبنو مزغنة وبنو جعد وملكانة وبطوية وبنو يفرن وبنو خليل وبعض أعقاب ملكانة بجهات بجاية ونواحيها وكان التقدم منهم جميعاً لتلكانة وكان كبيرهم لعهد الأغالبة مناد بن منقوش بن صنهاج الأصغر وهو صناك بن واسفاق بن جبريل بن يزيد بن واسلي بن سمليل بن جعفر بن إلياس بن عثمان بن سكاد بن ملكان بن كرت بن صنهاج الأكبر هكذا نسبه ابن النحوي من مؤرخي الأندلس وذكر بعض مؤزخي المغرب: أن مناد بن منقوش ملك جانباً من إفريقية والمغرب الأوسط مقيماً لدعوة بني العباس وراجعاً إلى أمر الأغالبة. وأقام أمره من بعده ابنه زيري بن مناد وكان من أعظم ملوك البربر. وكانت بينه وبين مغراوة من زناتة المجاورين له من جهة المغرب الأوسط كما نذكر حروب وفتن طويلة. ولما استوسق الملك للشيعة بإفريقية تحيز إليهم للولاية التي لعلي رضي الله عنه فيهم. وكان من أعظم أوليائهم واستطال بهم على عدوه من مغراوة فكانوا ظهراً له عليهم. وانحرفت لذلك مغراوة وسائر زناتة عن الشيعة سائر أيامهم وتحيزوا إلى المروانيين ملوك العدوة بالأندلس فأقاموا دعوتهم بالمغرب الأوسط والأقصى كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. ولما كانت فتنة أبي يزيد والتاث أمر العبيديين بالقيروان والمهدية كان لزيري بن مناد منافرة إلى الخوارج أصحاب أبي يزيد وأعقابهم وتسريب الحشود إلى مناصرة العبيديين بالقيروان كما ستراه. واختط مدينة أشير للتحصن بها سفح الجبل تيطراً لهذا العهد حيث مواطن حصين وحصنها بأمر المنصور وكانت من أعظم مدن المغرب. واتسعت بعد ذلك خطتها واستبحر عمرانها ورحل إليها العلماء والتجار من القاصية. وحين نازل أبا إسمعيل المنصور أبا يزيد لقلعة كتامة جاءه زيري في قومه ومن انضم إليه من حشود البربر وعظمت نكايته في العدو وكان الفتح. وصحبه المنصور إلى أن انصرف من المغرب ووصله بصلات سنية. وعقد له على قومه وأذن له في اتخاذ القصور والمنازل والحمامات بمدينة أشير. وعقد له على تاهرت وأعمالها. ثم اختط ابنه بلكين بأمره وعلى عهده مدينة الجزائر المنسوبة لبني مزغنة بساحل البحر ومدينة مليانة بالعدوة الشرقية من شلف ومدينة لمدونة. وهم بطن من بطون صنهاجة وهذه المدن لهذا العهد من أعظم مدن المغرب الأوسط ولم يزل زيري على ذلك قائماً بدعوة العبيديين منابذاً لمغراوة واتصلت الفتنة فيهم. ولما نهض جوهر الكاتب إلى المغرب الأقصى أيام معد المعز لدين الله أمره أن يستصحب زيري بن مناد فصحبه إلى المغرب وظاهره على أمره. ولما قتل يعلى بن محمد اليفرني اتهمه زناتة بالممالأة عليه. ولما نزل جوهر فاس وبها أحمد بن بكر الجذامي وطال حصاره إياها كان لزيري في حصارها أعظم العناء وكان فتحها على يده. سهر ذات ليلة وصعد سورها فكان الفتح. ولما استمرت الفتنة بين زيري بن مناد ومغراوة ووصلوا أيديهم بالحكم المستنصري وأقاموا الدعوة المروانية بالمغرب الأوسط وشمر محمد بن الخير بن محمد بن خزر لذلك رماه معد بقريعة زيري وقومه من صنهاجة وعقد له على المغرب إقطع له ما افتتح من أقطاره فنهض زيري في قومه واحتشد أهل وطنه وقد جمع له محمد بن الخير وزناتة فسرح إليهم ولده بلكين في مقدمة وعارضهم قبل استكمالهم لتعبئة فدارت بينهم حرب شديدة بعد العهد بمثلها يومئذ. واختل مصاف مغراوة وزناتة. ولما أيقن محمد بن الخير بالمهلكة وعلم أنه أحيط به مال إلى ناحية من العسكر وتحامل على سيفه فذبح نفسه وانفض جموع زناتة واستمرت الهزيمة عليهم سائر يومهم فاستلحموا ومكثت عظامهم ماثلة بمصارعهم عصوراً. وهلك فيما زعموا بضعة عشر أميراً منهم وبعث زيري برؤوسهم إلى المعز بالقيروان فعظم سروره وغم لها الحكم المستنصري صاحب الدعوة بما أوهنوا من أمره. استطال زيري وصنهاجة على بوادي المغرب وعلت يده على جعفر بن علي صاحب المسيلة والزاب وسما به في الرتب عند الخلافة وتاخمه في العمالة. واستدعى معد جعفر بن علي من المسيلة لتولية إفريقية حين اعتزم على الرحيل إلى القاهرة فاستراب بما كانت السعاية كبرت فيه. وبعث معد المعز بعض مواليه فخافه جعفر على نفسه وهرب من المسيلة ولحق بمغراوة فاشتملوا عليه وألقوا بيده زمام أمرهم وقام فيهم بدعوة الحكم المستنصري وكانوا أقدم لها إجابة. وفاوضهم زيري الحرب قبل استفحالهم فزحف إليهم واقتتلوا قتالاً شديداً. وكانت على زيري الدبرة وكبا به فرفسه وأجلت الهزيمة عن مصرعه ومصارع حاميته من قومه فحزوا رأسه وبعثوا به إلى الحكم المستنصري بقرطبة في وفد أوفدوه عليه من أمرائهم يؤدون الطاعة ويؤكدون البيعة ويجمعون لقومهم النصرة. وكان مقدم وفدهم يحيى بن علي أخو جعفر هذا كما ذكرناه. وهلك زيري هذا سنة ستين وثلثمائة لست وعشرين سنة من ولايته. ولما وصل خبره إلى ابنه بلكين وهو بأشير نهض إلى زناتة ودارت بينهم حرب شديدة فانهزمت زناتة وثأر بلكين بأبيه وقومه واتصل ذلك بالسلطان فحمد أثره وعقد له على عمل أبيه بأشير وتيهرت وسائر أعمال المغرب وضم إليه المسيلة والزاب وسائر عمل جعفر فاستعتب واستفحل أمره واتسعت ولايته وأثخن في البربر أهل الخصوص من مزاتة وهوارة ونفرة وتوغل في المغرب في طلب زناتة فأثخن فيهم. ثم رجع واستقدمه السلطان لولاية إفريقية فقدم سنة إحدى وستين واستبلغ السلطان في تكريمه ونفس ذلك عليه كتامة. ثم نهض السلطان إلى القاهرة واستخلفه كما نذكره. وكان ذلك أول دولة آل زيري بإفريقية والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة آل زيري بن مناد ولاة العبيديين من هذه الطبقة بإفريقية وأولية أمرهم وتصاريف أحوالهم لما أخذ المعز في الرحلة إلى المشرق وصرف اهتمامه إلى ما يتخلف وراء ظهره من الممالك والعمالات ونظر فيمن يوليه أمر إفريقية والمغرب ممن له الغناء والاضطلاع وبه الوثوق من صدق التشييع ورسوخ القدم في دراية الدولة فعثر اختياره على بلكين بن زيري بن مناد ولي الدولة منذ عهد سلفه بموجب عهد أخذه من أيدي زناتة أعدائها في سبيل الذب عن الدعوة والمظاهرة للدولة.
فبعث خلف بلكين بن زيري وكان متوغلاً في المغرب في حروب زناتة وولاه أمر إفريقية والمغرب ما عدا صقلية كانت لبني أبي الحسين الكلبي وطرابلس لعبد الله بن يخلف الكتامي وسماه يوسف بدلاً من بلكين. وكناه أبا الفتوح ولقبه سيف الدولة ووصله بالخلع والأكسية الفاخرة. وحمله على مقرباته بالمراكب الثقيلة وأنفذ أمره في الجيش والمال وأطلق يده في الأعمال. وأوصاه بثلاث: أن لا يرفع السيف عن البربر ولا يرفع الجباية عن أهل البادية ولا يولي أحداً من أهل بيته. وعهد إليه أن يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه وقطع علائق الأموية منه. وارتحل يريد القاهرة سنة اثنتين وستين ورجع عنه بلكين من نواحي صفاقس فنزل قصر معد بالقيروان واضطلع بالولاية. وأجمع غزو المغرب فغزاه في جموع صنهاجة ومخلف كتامة وارتحل إلى المغرب وفر أمامه ابن خزر صاحب المغرب الأوسط إلى سجلماسة. وبلغه خلاف أهل تاهرت وإخراج عامله فرحل إليها وخربها. ثم بلغه أن زناتة اجتمعوا إلى تلمسان فرحل إليهم فهربوا أمامه ونزل على تلمسان فحاصرها حتى نزل أهلها على حكمه ونقلهم إلى أشير. وبلغه كتاب معد ينهاه عن التوغل في المغرب فرجع. ولما كان سنة سبع وستين رغب بلكين من الخليفة نزار بن المعز أن يضيف إليه عمل طرابلس وسرت وأجدابية فأجابه إلى ذلك وعقد له عليها. ورحل عنها عبد الله بن يخلف الكتامي وولى بلكين عليه من قبله. ثم ارتحل بلكين إلى المغرب وفرت أمامه زناتة فملك فاس وسجلماسة وأرض الهبط وطرد منها عمال بني أمية. ثم غزا جموع زناتة بسجلماسة وأوقع بهم وتقبض على ابن خزر أمير مغراوة فقتله. وأجفل ملوكهم أمامه مثل بني يعلى بن محمد اليفرني وبني عطية بن عبد الله بن خزر وبني فلفول بن خزر ويحيى بن علي بن حمدون صاحب البصرة. وبرزوا جميعاً بقياطينهم إلى سبتة وبعثوا الصريخ إلى المنصور بن أبي عامر فخرج بعساكره إلى الجزيرة الخضراء. وأمدهم بمن كان في حضرته من ملوك زناتة ورؤسائهم النازعين إلى خلفاء الأموية بالأندلس بقرطبة بالمقام في سبيل الطاعة واغتنام فضل الرباط بثغور المسلمين في إيالة الخلفاء. واجتمعت منهم وراء البحر أمم مع ما انضم إليهم من العساكر والحشود. وأجازهم البحر لقصر جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة وعقد له على حرب بلكين وأمده بمائة حمل من المال فتعاقد ملوك زناتة واجتمعوا إليه وضربوا مصاف القتال بظاهر سبتة. وهرع إليهم المدد من الجزيرة من عساكر المنصور وكادوا يخوضون البحر من فراض الزقاق إلى مظاهرة أوليائهم من زناتة. ووصل بلكين إلى تيطاور وتسنم هضابها وقطع شعراءها لنهج المسالك والطرق لعسكره حتى أطل على معسكرهم بظاهر ستبة فرأى ما هاله واستيقن امتناعهم. ويقال أنه لما عاين سبتة من مستشرفه ورأى اتصال المدد من العدوة إلى معسكرهم بها قال: هذه أفعى فغزت إلينا فاها وكر راجعاً على عقبه. وكان موقفه ذلك أقصى أثره. ورجع إلى البصرة فهدمها وكانت دار ملك ابن الأندلسي وبها عمارة عظيمة. ثم انفتح باب في جهاد برغواطة فارتحل إليهم وشغل بجهادهم وقتل ملكهم عيسى بن أبي الأنصار كما نذكره. وأرسل بالسبي إلى القيروان وأذهب دعوة بني أمية من نواحي المغرب وزناتة مشردون بالصحراء إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين بوراكسن ما بين سجلماسة وتلمسان منصرفاً من هنه الغارة الطويلة.
ولما توفي بلكين بعث مولاه أبو زغبل بالخبر إلى ابنه المنصور وكان والياً باشير وصاحب عهد أبيه فقام بأمر صنهاجة من بعده ونزل صيره وقلده العزيز نزار بن معد أمر إفريقية والمغرب على سنن أبيه وعقد لأخيه أبي البهارعلى تاهرت ولأخيه يطوفت على أشير وسرحه بالعساكر إلى المغرب الأقصى سنة أربع وسبعين يسترجعه من أيدي زناتة. وقد بلغه أنهم ملكوا سجلماسة وفاس زيري بزو عطية المغراوي الملقب بالقرطاس أمير فاس فهزمه ورجع إلى أشير. وأقصى المنصور بعدها عن غزو المغرب وزناتة واستقل به ابن عطية وابن خزرون وبدر بن ثم رحل بلكين إلى رقادة وفتك بعبد الله بن الكاتب عامله وعامل أبيه على القيروان لهنات كانت منه وسعايات أنجحت فيه فهلك سنة تسع وسبعين وولي مكانه يوسف بن أبي محمد وكثر التواتر بكتابه فقتلهم وأثخن فيهم حتى أذعنوا وأخرج إليهم العمال وعقد لأخيه حماد على أشير. وطالت الفتنة مع زناتة ونزل إليه منهم سعيد بن خزرون. ولم يزل سعيد بطبغة إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وولي ابنه فلفول بن سعيد. وخالف أبو البهار بن زيري سنة تسع وسبعين فزحف إليه المنصور وفر بين يديه إلى المغرب. وأمد المنصور أهل تاهرت ومضى في اتباع أبي البهار حتى نفد عسكره وأشير عليه بالرجوع فرجع. وبعث أبو البهار إلى أبي عامر صاحب الأندلس في المظاهرة والمدد واسترهن ابنه في ذلك فكتب زيري بن عطية صاحب دعوة الأموية من زناتة بفاس أن يكون معه يداً واحدة فظاهره زيري واتفق رأيهما مدة وحاربهما بدر بن يعلى فهزماه وملكا فاس وما حولها. ثم اختلفت ذات بينهما سنة اثنتين وثمانين ورجع أبو البهار إلى قومه. ووفد على المنصور سنة اثنتين وثمانين بالقيروان فأكرمه ووصله وأنزله أحسن نزل وعقد له على تاهرت. ثم هلك المنصور سنة خمس وثمانين.
ولما هلك المنصور قام بأمره ابنه باديس وعقد لعمه يطوفث على تاهرت وسرح عساكره لحرب زناتة مع عميه يطوفت وحماد فولوا منهزمين أمام زناتة إلى أشير. ونهض بنفسه سنة تسع وثمانين لحرب زيري بن عطية راجعاً إلى المغرب فولى باديس أخاه يطوفت على تاهرت وأشير وخالد عليه عمومته ماكسن وزاوي وحلال ومعتز وعزم واستباحوا عسكر يطوفت وأفلت منهم. ووصل أبو البهار متبرئاً من شأنهم. وشغل السلطان باديس بحرب فلفول بن سعيد كما نذكره في أخبار بني خزرون وسرح عمه حماداً لحرب بني زيري إخوته. ووصل بنو زيري أيديهم بفلفول ثم رجعوا إلى حماد فهزمهم وتقبض على ماكسن منهم بأطمة الكلاب وقتل أولاد الحسن وباديس كذا ذكر ابن حزم. ونجا فلهم إلى جبل سنوة فنازلهم حماد أياماً وعقد لهم السلم على الإجازة إلى الأندلس فلحقوا بابن أبي عامر سنة إحدى وتسعين وثلثمائة. وهلك زيري بن عطية المغراوي لتسع أيام من مهلك ماكسن وأقفل باديس عمه حماداً إلى حضرته ليستعين به في حروب فلفول فاضطرب المغرب لقفوله وأظهرت زناتة الفساد وأضروا بالسابلة وحاصروا المسيلة وأشير فسرح إليهم باديس عمه حماداً وخرج على أثره سنة خمس وتسعين فنزل تيجست ودوخ حماد المغرب وأثخن في زناتة واختط مدينة القلعة. ثم طلب منه باديس أن ينزل على عمل يتحس وقسطنطينة اختياراً للطاغية فأبى وأظهر الخلاف. وبعث إليه أخاه إبراهيم فأقام معه وزحف إليهم باديس ثم رحل في طلبه إلى شلف ونزع إليه بعض العساكر. ودخل في طاعته بنو توجين وجاروا في مدده. ووصل أميرهم عطية بن دافلين وبدر بن أغمان بن المعتز فوصلها. وكان حماد قتل دافلين. ثم نزل باديس نهر واصل والسرسو وكزول وانثنى حماد راجعاً إلى القلعة واتبعه باديس. ونازله بها وهلك بمعسكره عليها سنة ست وأربعمائة فجأة وهو نائم بين أصحابه بمضربه فارتحلوا راجعين واحتملوا باديس على أعواه.
ولما بلغ الخبر بمهلك باديس بويع ابنه المعز ابن ثمان سنين ووصل العسكر فبايعوه البيعة العامة. ودخل حماد المسيلة واشير واستعد للحرب وحاصر باغاية. وبلغ الخبر بذلك فزحف المعز إليه وأفرج عن باغاية ولقيه فانهزم حماد وأسلم معسكر وتقبض على أخيه إبراهيم ونجا إلى القلعة ورغب في الصلح فاستجيب على أن يبعث ولده. وانتهى المعز إلى سطيف وقصر الطين وقفل إلى حضرته ووصل إليه القائد ابن حماد سنة ثمان وأربعمائة راغباً في الصلح فعقده واستقل حماد بعمل المسيلة وطبنة والزاب واشير وتاهرت وما يفتح من بلاد المغرب وعقد للقائد ابن حماد على طبنة والمسيلة ومقره ومرسى الدجاج وسوق حمزة وزواوة وانقلب بهدية ضخمة. ووض! الحرب أوزارها من يومئذ واقتسموا الخطة والتحموا بالأصهار وافترق ملك صنهاجة إلى دولتين: دولة إلى المنصور بن بلكين أصحاب القيروان ودولة إلى حماد بن بلكين أصحاب القلعة. ونهض المهز إلى حماد سنة اثنتين وثلاثين فحاصره بالقلعة مدة سنين ثم أقلع عنها وانكفأ راجعاً ولم يعاود فتنة بعد. ووصل زاوي بن زيري من الأندلس سنة عشر وأربعمائة كما ذكرناه في خبره فتلقاه المعز أعظم لقاء وسلم عليه راجلاً وفرشت القصور لنزله ووصله أعظم الصلات وأرفعها. واستمر ملك المعز بإفريقية والقيروان وكان أضخم ملك عرف للبربر بإفريقية وأترفه وأبذخه. نقل ابن الرقيق من أحوالهم في الولائم والهدايا والجنائز والأعطيات ما يشهد بذلك مثل ما ذكر أن هدية صندل عامل باغاية مائة حمل من المال وأن بعض توابيت الكبراء منهم كان العود الهندي بمسامير الذهب باديس أعطى فلفول بن مسعود الزناتي ثلاثين حملاً من المال وثمانين تختاً. وأن أعشار بعض أعمال الساحل بناحية صفاقس كان خمسين ألف قفيز وغير ذلك من أخبارهم. وكانت بينه وبين زناتة حروب ووقائع كان له الغلب في جميعها كما هو مذكور وكان المعز منحرفاً عن مذاهب الرافضة ومنتحلاً للسنة فأعلن بمذهبه لأول ولايته ولعن الرافضة. ثم صار إلى قتل من وجد منهم وكبا به فرسه ذات يوم فنادى مستغيثاً باسم أبي بكر وعمر فسمعته العامة فثاروا لحينهم بالشيعة وقتلوهم أبرح قتل وقتل دعاة الرافضة يومئذ وامتعض لذلك خلفاء الشيعة بالقاهرة. وخاطبه وزيرهم أبو القاسم الجرجاني محذراً وهو يراجعه بالتعريض بخلفائه والقدح فيهم حتى أظلم الجو بينه وبينهم إلى أن انقطع الدعاء لهم سنة أربعين وأربعمائة على عهد المستنصر من خلفائهم. وأحرق بنوده ومحا اسمه من الطرز والسكة ودعا للقائم بن القادر من خلفاء بغداد. وجاءه خطاب القائم وكتاب عهده صحبة داعيته أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي فرماه المستنصر خليفة العبيديين بالعرب من هلال الذين كانوا مع القرامطة وهم رياح وزغبة والأثبج. وذلك بمشاركة من وزيره أبي محمد الحسن بن علي اليازوري كما ذكرنا في أخبار العرب ودخولهم إلى إفريقية. وتقدموا إلى البلاد وأفسدوا السابلة والقرى. وسرح إليهم المعز جيوشه فهزموهم فنهض إليهم ولقيهم بجبل حيدران فهزموه واعتصم بالقيروان فحاصروه وتمرسوا به وطال عيثهم في البلاد وإضرارهم بالرعايا إلى أن خربت إفريقية. وخرج ابن المعز من القيروان سنة تسع وأربعين مع خفيره منهم وهو مؤنس بن يحيى الصبري أمير رياح فلحق في خفارته بالمهدية بعد أن أصهر إليه في ابنته فأنكحه إياها ونزل بالمهدية وقد كان قدم إليها ابنه تميماً فنزل عليه ودخل العرب القيروان وانتهبوها. وأقام المعز بالمهدية وانتزى الثوار في البلاد فغلب حمو بن مليل البرغواطي على مدينة صفاقس وملكها سنة إحدى وخمسين. وخالفت سوسة وصار أهلها إلى الشورى في أمرهم. وصارت تونس آخراً إلى ولاية الناصر بن علناس بن حماد صاحب القلعة. وولى عليهم عبد الحق بن خراسان فاستبد بها واستقرت في ملكه وملك بنيه وتغلب موسى بن يحيى على قابس. وصار عاملها المعز بن محمد الصنهاجي إلى ولايته وأخوه إبراهيم من بعده كما يأتي ذكره. والتاث ملك آل باديس وانقسم في الثوار كما نذكر في أخبارهم بعد. وهلك المعز سنة أربع وخمسين والله أعلم. دولة تميم في المعز ولما هلك المعز قام بأمره ابنه تميم وغلبه العرب على إفريقية فلم يكن له إلا ما ضمه السور خلا أنه كان يخالف بينهم وتسلط بعضهم على بعض. وزحف إليه حمو بن ملين البرغواطي صاحب صفاقس فخرج تميم للقائه وانقسمت العرب عليهما فانهزم حمو وأصحابه وذلك سنة خمس وخمسين. وسار منها إلى سوسة فافتتحها ثم بعث عساكره إلى تونس فحاصروا ابن خراسان حتى استقام على الطاعة لتميم. ثم بعث عساكره أيضاً إلى القيروان وكان بها قائد بن ميمون الصنهاجي من قبل المعز فأقام ثلاثاً. ثم غلبته عليها هوارة وخرج إلى المهدية ثم رده تميم إلى ولايته بها فخالف بعد ست من ولايته وكاتب الناصر بن علناس صاحب القلعة فبعث تميم إليه العساكر فلحق بالناصر وأسلم القيروان. ثم رجع بعد ست إلى حمو بن مليل البرغواطي بصفاقس وابتاع له القيروان من مهنا بن علي أمير زغبة فولاه عليها وحصنها سنة سبعين وكانت بين تميم والناصر صاحب القلعة أثناء ذلك فتن كان سماسرتها العرب يجأجئون بالناصر من قلعته ويوطئون عساكره ببلاد إفريقية. وربما ملك بعض أمصارها ثم يردونه على عقبه إلى داره إلى أن اصطلحا سنة سبعين وأصهر إليه تميم بابنته. ونهض تميم سنة أربع وسبعين إلى قابس وبها ماضي بن محمد الصنهاجي وليها بعد أخيه إبراهيم فحاصرها ثم أفرج عنها. ونازلته العرب سنة ست وسبعين بالمهدية ثم أفرجوا عنه وهزمهم فقصدوا القيروان ودخلوها فأخرجهم عنها. وفي أيامه كان تغلب نصارى جنده على المهدية سنة ثمانين نزلوها في ثلثمائة مركب وثلاثين ألف مقاتل واستولوا عليها وعلى زويلة فبذل لهم تميم في النزول عنها مائة ألف دينار بعد أن انتهبوا جميع ما كان بها فاستخلصها من أيديهم ورجع إليها ثم استولى على قابس سنة تسع وثمانين من يد أخيه عمر بن المعز بايع له أهلها بعد موت قاضي بن إبراهيم. ثم استولى بعدها على صفاقس سنة ثلاث وتسعين وخرج منها حمو بن مليل إلى قابس فأجاره مكن بن كامل الدهماني إلى أن مات بها. وكانت رياح قد تغلبت على زغبة وعلى إفريقيه من لدن سبع وستين وأخرجوه منها. وفي هذه المائة الخامسة غلب الأخضر من بطون رياح على مدينة باجة وملكوها وهلك تميم إثر ذلك سنة إحدى وخمسمائة.
|